منذ بدأ بعض كتاب التنمية قبل نحو أربعين عامّا يشيرون إلى التبعية الاقتصادية كسمة أساسية من سمات العالم الثالث ويدعون إلى فك الارتباط بعجلة الاقتصاد العالمي والرأسمالي بوجه خاص وإلى تنمية اقتصادية «معتمدة على الذات» كثرت الإشارة لدى الاقتصاديين المصريين إلى تجربة محمد علي كمثال جيد لمحاولة بناء تنمية اقتصادية مستقلة؛ نجحت إلى حد كبير في تحقيق الاعتماد على الذات حتى تم ضربها من القوى العالمية المستفيدة من ربط مصر بالاقتصاد الرأسمالي .
عصر محمد علي .. تنمية بلا ديون
منذ بدأ بعض كتاب التنمية قبل نحو أربعين عامّا يشيرون إلى التبعية الاقتصادية كسمة أساسية من سمات العالم الثالث ويدعون إلى فك الارتباط بعجلة الاقتصاد العالمي والرأسمالي بوجه خاص وإلى تنمية اقتصادية «معتمدة على الذات» كثرت الإشارة لدى الاقتصاديين المصريين إلى تجربة محمد علي كمثال جيد لمحاولة بناء تنمية اقتصادية مستقلة؛ نجحت إلى حد كبير في تحقيق الاعتماد على الذات حتى تم ضربها من القوى العالمية المستفيدة من ربط مصر بالاقتصاد الرأسمالي .
فالواقع أن مصر تحت حكم محمد علي شهدت اندماجًا في الاقتصاد العالمي بدرجة لم تعرفها طوال قرون طويلة سابقة وكانت طبقًا لعدة معايير أقل اعتمادًا على النفس بكثير في عهد محمد علي مما كانت طوال الحكم العثماني على الأقل. فإذا نظرنا مثلا إلى الدور الذي لعبته التجارة الخارجية في الاقتصاد المصري تحت حكم محمد علي» نجد أن صادرات مصر من القطن قد أصبحت في ظله هي المصدر الأساسي للدخل القومي وإيرادات الحكومة» وأن الواردات المصرية قد زادت أيضًا في عهده بسرعة مذهلة مع زيادة حصيلة الصادرات؛ إما لتزويد جيشه الدائم النمو بما يحتاج إليه من معدات أو لتزويد صناعاته الجديدة بما تحتاج إليه من آلات ومواد أولية.
كانت التجارة الخارجية لمصر في القرن الثامن عشر وخلال سنوات الحملة الفرنسية لا تلعب إلا دورًا هامشيًا في الاقتصاد المصري فأصبحت تحت حكم محمد علي هي المحرك الأول لعجلة الاقتصاد. وكانت الأسعار المحلية السائدة في مصر قبله تكاد تكون منعدمة الصلة بالأسعار العالمية؛ فاقتربت بشدة في عهده من الأسعار السائدة في أوربا مع زيادة حجم الواردات والصادرات؛ ومع التقدم الذي تحقق في عهده في وسائل المواصلات.
زاد بشدة أيضًا في عهد محمد علي عدد الأجانب المقيمين بمصر فبينما لم يزد عددهم على نحو مائة شخص عند قدوم الحملة الفرنسية؛ تزايد عددهم بسرعة في عهده بسبب استقدامه لأعداد كبيرة من المهندسين والأطباء وغيرهم من الفنيين للخدمة في مصانعه وجيشه وأسطوله؛ وبسبب ازدهار التجارة الخارجية.
بل إنه حتى بمقياس التنوع في مصادر الواردات المصرية وأسواق صادرتها نجد أن مصر في عهد محمد علي كانت معتمدة اعتمادًا أساسيا على سوق واحدة هي السوق البريطانية التي كانت عند وفاة محمد علي في 1849 تستوعب وحدها ما يقرب من نصف إجمالي الصادرات المصرية وتزوّد مصر بأقل قليلاً من نصف إجمالي وارادتها.
لم يكن الاقتصاد المصري إذن «مستقلا» عن الاقتصاد الرأسمالي في عهد محمد علي.. لا بمقياس ضآلة دور التجارة الخارجية .. ولا بمقياس تنوع أسواق التصدير والاستيراد.. ولا بمقياس الاعتماد على الخبرة والمهارات المحلية.
من أين إذن يأتي الحديث عن «التنمية المستقلة» في عهد محمد علي ولماذا يصح وصف تجربته بأنها تجربة رائدة في «الاعتماد على النفس» ؟ يصح ذلك في رأيي من ثلاثة وجوه أساسية .. نفتقدها كلها اليوم :
كان الوجه الثالث من وجوه الاعتماد على النفس في عهد محمد على هو أهمها على الإطلاق.
فهذا الرجل الذي بنى المصانع» وأقام الخزانات والسدود وأحدث ثورة في التعليم» وأرسل البعثات وانشاً أقوى جيش في المنطقة لم يسمح لنفسه قط بالتورط في الديون .
نعم كانت تمر بميزان المدفوعات في عهده بعض سنوات العجز» ولكنه كان سرعان ما يعقبه فائض فإذا بمصر تحقق اكتفاء ذاتيًا كاملاً في رأس المال لا يدخل إليها منه معونات أو قروض أو استثمار أجنبي ولا يخرج منه إلا ما يفي بالتزاماتها من دفع الجزية لاستانبول أو بعض الهدايا للسلطان. كان في السنوات الصعبة التي يحتاج فيها إلى مزيد من المال لتمويل حملاته العسكرية؛ يستغني عن كل الواردات غير الضرورية؛ ثم يرغم التجار الأجانب على دفع قيمة مشترياته منه مقدما. يروي كراوشلي أن محمد علي احتاج في 1833 احتياجًا شديدًا إلى مزيد من المال لتمويل حملته إلى سوريا. وتدفقت عليه العروض بتقديم القروض» ولكن المقرضين الأجانب طالبوا بتخصيص إيرادات بعض المديريات لضمان السداد. الأمر الذي رفضه محمد علي رفضًا بانَّا ولم تتم الصفقة. وكان محمد علي يعجز أحيانًا عن دفع مرتبات موظفيه؛ فيعطيهم بدلًا منها سندات على الحكومة يقومون بخصمها لدى التجار أو بعض المقرضين المحليين» بسعر فائدة قد يصل أحيانًا إلى 15% او 20% .
كان الوالي يمر إذن من حين لآخر وخلال بعض الظروف الصعبة؛ بفترات يكون فيها مدينا بمبالغ كبيرة للتجار مقابل ما دفعوه مقدمَا أو لموظفيه مقابل مرتباتهم المتأخرة ولكنه كان بمجرد أن يحل السلام ويمر بفترة رخاء سرعان ما يقوم بسداد ديونه ؛ وسرعان ما تمتلئ خزانته من جديد خلال فترة لا تزيد على سنة أو سنتين. في أثناء ذلك ورغم أنه كان دائم التطلع إلى مشروعات ضخمة للتنمية وتقدم البلاد.
كان يتجنب دائمًا التورط في مشروعات تفوق أعباؤها موارد البلاد المالية ؛ فإذا به يرحل عن العالم في 1849 دون أن تكون مصر مدينة لأحد بقرش واحد .
من المفيد أن نتأمل .. من خلال تجربة محمد علي ما يقال اليوم كثيرًا عن التبعية وعن «الاعتماد المتبادل» بين الدول. فحيثما تثار قضية الديون الخارجية كثيرًا ما نسمع من يقول إننا نعيش اليوم في عالم لا معنى فيه للشكوى من التبعية فالدول كلهاء الغنية منها والفقيرة تعيش على «الاعتماد المتبادل» ولا يمكن لأي منها الاستغناء عن غيرها مهما بلغ رخاؤها وقوتها. فاليابان مثلاً؛ بكل ثروتها تعتمد في حياتها على استيراد النفط والولايات المتحدة مع رخائها لا يمكن أن تعيش إذا أغلقت أسواق أوربا الغربية واليابان في وجه منتجاتها والعكس بالعكس. وهذا بالطبع صحيح. ولكنه أيضًا يروي نصف الحقيقة وليس الحقيقة كلها. فالعبرة في درجة الاستقلال كما رأينا من تجربة محمد على ليست بمدى استغناء الدولة عن التجارة الخارجية.
أو عن علاقاتها
الاقتصادية بالعالم الخارجي. وإنما بمدى ما تتمتع به من قوة المساومة في علاقاتها
الخارجية. فخطر إغلاق السوق الأوربية أمام المنتجات الأمريكية يقابله خطر إغلاق
السوق الأمريكية أمام المنتجات الأوربية. والخطر الذي تواجهه اليابان من احتمال قطع
البترول عنها من دول تخضع بدرجة أو بأخرى
لمقتضيات السياسة الأمريكية؛ يقابله الخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة من احتمال اتخاذ إجراءات لا تقل خطورة
من جانب الحكومة اليابانية. إنما تأتى التبعية
حينما تضعف قدرة الدولة على المساومة بحيث لا يكون لديها أية وسيلة لدفع الخطر عنها إذا أرادت دولة أخرى
إخضاعها والتحكم في إرادتها. وهذا هو بالضبط ما نجح محمد علي في تجنبه.
والسؤال الآن: من أين توفرت لمحمد علي هذه الدرجة العالية من الاستقلال والاعتماد على النفس ؟ من السهل ومن الصحيح أيضَّاء الحديث عن قوة إرادة الرجل وفطنته وبعد نظره ولكن من السهل أيضَا المبالغة في دوره الشخصي والإفراط في الثناء عليه.
لقد كانت مصر في
عهد محمد علي ؛ كما كانت في عهد عبد
الناصر» على ما سنرى فيما بعد» تعيش وسط ظروف دولية ملائمة للغاية. وهنا نجد المقارنة بين النصف الأول من القرن
التاسع عشر ونصفه الثاني؛ شبيهة أشد الشبه
بالمقارنة بين فترة ازدهار الناصرية (56-1965) وفترة انحسارها منذ النصف الثاني من الستينيات.
إن الذي يتحكم في درجة اعتمادك على القروض ليس هو فقط مدى حاجتك إلى الاقتراض أو مدى رعونتك أو حكمتك في إدارة شئونك وإنما هو أيضًا مدى استعداد غيرك لإقراضك ومدى تلهفه على توريطك في الديون. وهنا نصادف انطباق القاعدة التي كثيرًا ما نصادفها في عالم الاقتصاد: العرض يخلق الطلب.
ومعنى ذلك فيما نحن بصدده الآن أن تورطك في الديون لا يتوقف فقط على مدى حاجتك إليها وإنما يتوقف أيضًا على مدى حاجة غيرك لإقراضك. وقد كان من حسن حظ محمد علي أنه كان يعيش في عصر لم تكن قد بلغت فيه حاجة المقرضين الأجانب للإقراض؛ ما بلغته في عهد سعيد أو إسماعيل.
لقد تولى محمد علي حكم مصر في 1805 ولكن أوربا كانت لفترة السنوات العشر التالية منهوكة القوى في حروب نابليون. وفي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي كانت بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي أتمت ثورتها الصناعية» وتراكم لديها فائض من رأس المال. كان رأس المال البريطاني ما تزال أمامه فرص مغرية للاستثمار في أوربا التي كانت تمر بفترة نمو سريع في أعقاب حروب نابليون؛ وفي مزارع ومناجم الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية. ثم جاءت الأربعينيات فوجد فائض رأس المال فرضًا أخرى مجزية للاستثمار فى مد خطوط السكك الحديدية داخل بريطانيا نفسها حيث استوعبت السكك الحديدية في تلك الفترة الجزء الأكبر من هذا الفائض.
كان علينا إذن الانتظار حتى منتصف القرن قبل أن تبدأ استثمارات بريطانيا الخارجية في النمو بمعدل أكبر من معدل النمو في استثماراتها داخل حدودها وقبل أن تبدا استثماراتها في أوربا تتضاءل لحساب استثماراتها فيما وراء البحار"» ثم لحقت بها الاستثمارات الفرنسية والألمانية. أما الولايات المتحدة؛ التي جاءت ثورتها الصناعية متأخرة بنحو نصف قرن عن بريطانيا» ومرافقة بالتقريب للثورة الصناعية في فرنسا وألمانيا فكانت لا تزال تستورد كميات كبيرة من فائض رأس المال الأوربي التي أتت لتستغل فرص الاستثمار الهائلة التي أتاحها مد السكك الحديدية إلى أطرافها المترامية في الجنوب والغرب.
مع انتصاف القرن
التاسع عشر ودع محمد علي العالم .. وترك مصر لولاة ضعاف» يحار المرء فيما إذا كان تورط مصر في
الديون في عهدهم كان بسبب هذا الضعف أم كان هذا الضعف شرطًا أساسيًا يتعين
تحقيقه من أجل توريط مصر في الديون. أيا كان الأمر فإن شخصيات الولاة في أعقاب محمد
علي جاءت منسجمة تمام الانسجام مع حاجة رأس المال الأوربي وإذا بالطلب يخلق العرض
والعرض يخلق الطلب في دائرة جهنمية أودت باستقلال مصر
الاقتصادي والسياسي معا.
المصدر كتاب : قصة الاقتصاد المصري _ جلال أمين